سورة عبس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (عبس)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {عَبَسَ} أي: كلح {وتَوَلَّى}؛ أعرض {أن جاءه} أي: لأن جاءه {الأعمَى}، وهو عبدالله ابن أمِّ مكتوم، وأمُّ مكتوم: أمُّ أبيه، وأبوه: شريح بن مالك بن ربيعة الفهري، وذلك أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش، عُتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال: يا رسول الله علِّمني مما علمك الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله صلى الله عليه وسلم بالقوم، فَكَرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكرمه، ويقول إذا رأه: «مرحباً بمَن عاتبني فيه ربي»، ويقول: «هل لك من حاجة»، واستخلفه على المدينة مرتين.
ولم يُواجهه تعالى بالخطاب، فلم يقل: عبستَ وتوليتَ؛ رفقاً به وملاطفة؛ لأنَّ مواجهة العتاب من رب الأرباب من أصعب الصعاب، خلافاً للزمخشري وابن عطية ومَن وافقهما. و {أن جاءه}: علة ل {تولَّى}، أو {عبس}، على اختلاف المذهبين في التنازع، والتعرُّض لعنوان عماه إمّا لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه عليه السلام بالقوم، والإيذان باستحقاقه بالرفق والرأقة، وإمّا لزيادة الإنكار، كأنه تولَّى عنه لكونه أعمى. قاله أبو السعود.
{وما يُدْرِيك} أي: أيّ شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى حتى تُعرض عنه {لعله يَزَّكَّى}؛ لعل الأعمى يتطهّر بما سمع منك من دنس الجهل، وأصله: يتزكَّى، فأدغم. وكلمة الترجي مع تحقق الوقوع وارد على سنن الكبرياء، أو: على أنّ الترجّي بالنسبة إليه عليه السلام للتنبيه على أنَّ الإعراض عنه عند كونه مرجواً للتزكِّي مما لا ينبغي، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي، وفيه إشارة إلى أنَّ مَن تصدّى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى لهم التزكّي والتذكُّر أصلاً. وقوله تعالى: {أو يذَّكَّرُ}: عطف على {يزّكى}، داخل في حكم الترجي، قوله: {فتَنفَعه الذِكرَى}: عطف على {يذَّكَّر}، ومَن نصبه فجواب الترجي، أي: أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام، أي: إنك لا تدري ما هو مترقَب منه مِن تزكٍّ أو تذكُّر، ولو دريت لَمَا فرط ذلك منك.
{أمَّا مَن استغنى} أي: مَن كان غنياً بالمال، أو: استغنى عن الإيمان، أو عما عندك من العلوم والمعارف التي انطوى عليه القرآن {فأنت له تَصَدّى}؛ تتصدى وتتعرض له بالإقبال عليه، والاهتمام بإرشاده واستصلاحه. وفيه مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم، فإنّ الإقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام، أهل الغنى بالله.
{وما عليك ألاَّ يزَّكَّى} أي: وليس عليك بأس في ألاَّ يزَّكّى بالإسلام حتى تهتم بأمره، وتُعرض عمن أسلم وأقبل إليك، وقيل: {ما} استفهامية، أي: أيُّ شيء عليك في ألاّ يزكّى هذا الكافر.
{وأمّا مَن جاءك يسعى} أي: حال كونه مسرعاً طالباً لِما عندك من أحكام الرشد، وخصال الخير، {وهو يخشى} الله تعالى أو الكفار، أي: أذاهم في إتيانك، أو: الكبوة، أي: السقطة، كعادة العميان، {فأنت عنه تَلَهَّى}؛ تتشاغل، وأصله: تتلهى. رُوي: أنه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدَّى لغَني بعدُ.
{كلاَّ} أي: لا تَعُدْ إلى مثلها. وحاصل العتاب: ترجيح الإقبال على مَن فيه القبول والأهلية للانتفاع، دون مَن ليس كذلك ممن فيه استغناء، وإن كان قصده عليه السلام صالحاً، ولكن نبَّهه اللّهُ تعالى على طريق الأولى في سلوك الدعوة إليه، وأنّ مظنة ذلك الفُقراء؛ لتواضعهم، بخلاف الأغنياء، لتكبُّرهم وتعاظمهم. ولذلك لم يتعرض صلى الله عليه وسلم لغَنِي بعدها، ولم يُعرض عن فقير، وكذلك ينبغي لفضلاء أمته من العلماء الدعاة إلى الله، وقد كان الفقراء في مجلس الثوري أُمراء. ثم قال تعالى: {إِنها تذكرةٌ}؛ موعظة يجب أن يُتعظ بها، ويُعمل بموجبها، وهو تعليل للردع عما ذكر ببيان رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه مَن تصدّى له، {فمَن شاء ذّكَرَه} أي: فمَن شاء اللّهُ أن يذكره ذكره. أي: ألهمه الله الاتعاظ به، أو: مَن شاء حفظه واتعظ به، ومَن رغب عنها، كما فعله المستغني، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره.
وذكّر الضمير؛ لأنَّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وقال أبو السعود: الضميران للقرآن، وتأنيث الأول لتأنيث خبره، وقيل: الأول للسورة، أو للآيات السابقة، والثاني للتذكرة؛ لأنها في معنى الذكر والوعظ، وليس بذلك؛ فإنَّ السورة والآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي من الصفات الشريفة، لكنها ليست مما ألقي على المستغنى عنه، واستحق بسبب ذلك ما سيأتي من الدعاء عليه، والتعجب مِن كفره المفرط، لنزولها بعد الحادثة، وأمّا مَن جَوْز رجوعهما إلى العتاب المذكور، فقد أخطأ وأساء الأدب، وخبط خبطاً يقضي منه العجب، فتأمّل. اهـ.
وحاصِلُ المعنى: أنَّ هذه الآيات أي آيات القرآن تذكرة، فمَن شاء فليتعظ بها، حاصلة {في صُحُفٍ} منتسخة من اللوح، {مُكَرَّمةٍ} عند الله عزّ وجل، {مرفوعةٍ} في السماء السابعة، أو: مرفوعة المقدار والمنزِلة، {مُطَهَّرةٍ} عن مساس أيدي الشياطين، أو: عما ليس من كلام الله تعالى أو: مِن خللٍ في اللفظ أو المعنى، {بأيدي سَفَرَةٍ} أي: كَتَبَة من الملائكة، يستنسخون الكتبَ من اللوح، على أنه جمع: سافِرٍ، من السَّفْر، وهو الكتب، وقيل: بأيدي رسل من الملائكة يَسْفِرون بالوحي، بينه تعالى وبين أنبيائه، على أنه جمع سفير من السِفارة، وحَمْل السَفَرة على الأنبياء عليهم السلام أو على القُراء، لأنهم يقرؤون الأسفار، أو على الصحابة رضوان الله عليهم بعيد؛ لأنَّ هذه اللفظة مختصة بالملائكة، لا تكاد تُطلق على غيرهم، وقال القرطبي: المراد بقوله تعالى في الواقعة: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] هؤلاء السَفَرة. {كِرام} عند الله تعالى، أو: متعطفين على المؤمنين يكلؤونهم ويستغفرون لهم، {بررةٍ}؛ أتقياء، أو: مطيعين لله تعالى، من قولهم: فلان يبر خالقه، أي: يُطيعه، أو: صادقين، من قولهم: برّ في يمينه: صدق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للداعي إلى الله أن ينبسط عند الضعفاء، ويُقبل عليهم بكليته ويواجههم بالبشاشة والفرح، سواء كانوا ضعفاء الأموال، أو ضعفاء الأبدان، كالعُميان والمحبوسين والمرضى، أو: ضعفاء اليقين، إن أقبلوا إليه فقد كان الشيخ أبو العباس المرسي يحتفل بملاقاة أهل العصيان والجبابرة أكثر مِن غيرهم، فقيل له في ذلك، فقال: هؤلاء يأتونا فقراء منكسرين، بخلاف غيرهم من العلماء والصالحين. قلت: وكذلك رأيتُ حال أشياخنا رضي الله عنهم يَبرون بالجبابرة وأهل العصيان، ليجرُّوهم بذلك إلى الله تعالى، قالوا: يأتينا الرجل سَبُع فنهلس عليه فيرجع ذئباً، ثم نهلس عليه فيرجع قِطاً، ثم نجعل السلسلة في عنقه ونقوده إلى ربه. نَعَم إن تزاحم حق الفقراء وحق الجبابرة في وقت واحدٍ قدّم حقَّ الفقراء؛ لشرفهم عند الله، إلاّ إن كانوا راسخين، فيُقَدِّم عليهم غيرهم؛ لأنهم حينئذ يحبون الإيثار عليهم.
قال الورتجبي: بيَّن الله تعالى هنا يعني في هذه الآية درجةَ الفقر، وتعظيم أهله، وخِسّة الدنيا، وتحقير أهلها، وأنَّ الفقير إذا كان بنعت الصدق والمعرفة والمحبة كان شرفاً له، وهو من أهل الصُحبة، ولا يجوز الاشتغال بصُحبة الأغنياء، ودعوتهم إلى طريق الفقراء، إذا كان سجيتهم لم تكن بسجية أهل المعرفة، فإذا كان حالهم كذلك لا يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد، فالصُحبة معهم ضائعة، إلا ترى كيف عاتب الله نبيَّه بهذه الآية بقوله: {أمّا مَن استغنى..} الآية، كيف يتزكَّى مَن خُلق على جبِلة حب الدنيا والعمى عن الآخرة والعُقبى. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {قُتِلَ الإِنسانُ} أي: لُعن، والمراد: إمّا مَن استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نُعُوته الجليلة، الموجبة للإقبال عليه، والإيمان به، وإمّا الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده وقيل: المراد: أُميّة أو: عُتبة بن ربيعة. {ما أكْفَرَه}، ما أشد كفره! تعجبٌ من إفراطه في الكفران، وبيانٌ لاستحقاقه الدعاء عليه، وقيل: {بما} استفهامية، توبيخي، أي: أيُّ شيء حَمَلَه على الكفر؟! {من أي شيءٍ خَلَقهُ} أي: من أيِّ شيءٍ حقيرٍ خلَقَه؟ ثم بيّنه بقوله: {من نطفةٍ خَلَقَه} أي: مِن نطفة مذرة ابتداء خلقه، {فقدَّره}؛ فهيّأه لِما يصلح له، ويليق به من الأعضاء والأشكال، أو: فقدّره أطوراً إلى أن تَم خلقه.
{ثم السبيلَ يَسَّرهُ} أي: يَسّر له سبيل الخروج من بطن أمه، بأن فتح له فم الرحم، وألهمه أن يتنكّس ليسهل خروجه. وتعريف {السبيل} باللام للإشعار بالعموم، أو: يَسْر له سبيل الخير أو الشر، على ماسبق له، أو يَسْر له سبيل النظر السديد، المؤدِّي إلى الإيمان، وهو منصوب بفعل يُفسره ما بعده.
{ثم أماته فأقْبَره} أي: جعله ذا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً، ولم يجعله مطروداً على وجه الأرض تأكله السباع والطير، كسائر الحيوان. يُقال: قبرتَ الميت: إذا دفنته، وأقبرته: أمرت بدفنه. وعدّ الإماتة من النِعم؛ لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم، ولأنها سبب وصول الحبيب إلى حبيبه. {ثم إِذا شاء أنْشَرَهُ} أي: إذا شاء نَشْرَه، على القاعدة المستمرة مِن حذف مفعول المشيئة، أي: ثم ينشره في الوقت الذي شاء، وهو يوم القيامة، وفي تعلُّق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأنّ وقته غير متعين، قال ابن عرفة: تعليق المعاد بالمشيئة جائز، جارٍ على مذهب أهل السنة؛ لأنهم يقولون: إنه جائز عقلاً، واجب شرعاً، وأمّا المعتزلة فيقولون بوجوبه، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. اهـ.
{كلاَّ}، ردع للإنسان عما هو عليه، ثم بيَّن سبب الردع فقال: {لمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ} أي: لم يقضِ العبد جميع ما أمَرَه اللهُ به؛ إذ لا يخلوا العبد من تقصيرٍ ما، فإن قلت: {لَمَّا} تقتضي توقع منفيها، وهو هنا متعذر كما قلتَ؟. قلتُ: الأمر الذي أمر الله به عبادَه في الجملة: هو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان، وهو ممكن عادة، متوقع في الجملة وقد وصل إليه كثير من أوليائه تعالى، فمَن وصل إليه فلا تقصير في حقه، وإن كانت المعرفة غير متناهية، ومَن لم يصل إليه فهومُقصِّر، غير أنَّ عقابه هو احتجابه عن ربه. والله تعالى أعلم.
ثم أَمَرَ بالتفكُّر في نِعم الله، ليكون سبباً للشكر، الذي هو: صرف كلية العبد في طاعة مولاه، فلعله يقضي ما أَمَرَه فقال: {فلينظر الإِنسانُ إِلى طعامه} أي: فلينظر إلى طعامه الذي هو قِوام بدنه، وعليه يدور أمر معاشه، كيف صيَّرناه، {أَنَّا صَبَبْنَا الماءَ} أي: الغيث {صَبًّا} عجيباً، فمَن قرأ بالفتح فبدل اشتمال من الطعام، وبالكسر استئناف.
{ثم شققنا الأرضَ} بإخراج النبات، أو: بالحرث، وهو فعل الله في الحقيقة؛ إذ لا فاعل سواه، {شَقًّا} بديعاً لائقاً بما يشقها من النبات، صِغراً أو كِبراً، وشكلاً وهيئة، أو: شقاً بليغاً؛ إذ لا ينبت بمطلق الشق، وإذا نبت لا يتم عادة. و {ثم} للتراخي التي بين الصبّ والشق عادة، سواء قلنا بالنبات أو بالكَراب، وهو الحراثة.
{فأنبتنا فيها حَبًّا} كالبُر والشعير وغيرهما مما يتغذّى به. قال ابن عطية: الحب: جمع حبة بفتح الحاء، وهو: كل ما يتخذه الناس ويُرَبونه، والحِبة بكسر الحاء: كل ما ينبت من البذور ولا يُحْفل به ولا هو بمتخَذ. اهـ. {وعِنباً} أي: ثمرة الكَرْم، وهذا يؤيد أن المراد بالشق: حفر الأرض بالحرث أو غيره، لأنَّ العنب لا يشق الأرض في نباته، وإنما يغرس عوداً. وقال أبو السعود: وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيّد به المعطوف عليه، فلا ضرر في في خُلُو نبات العنب عن شق الأرض. اهـ. {وقَضْباً} وهو كل ما يقضب، أي: يُقطع ليُؤكل رطباً من النبات، كالبقول والهِلْيَوْن ونحوه مما يُؤكل غضاً، وهو جملة النِعَم التي أنعم الله بها، ولا ذكر له في هذه الآية إلاّ في هذه اللفظة. قاله ابن عطية. والهِلْيَوْن بكسر الهاء وسكون اللام: جمع هليونة، وهو الهِنْدَبا. قاله ابن عرفة اللغوي، وقيل: هو الفِصْفَصَة، وهو ضعيف؛ لأنها للبهائم، وهي داخلة في الأَبْ.
{وزيتوناً ونخلا}، الكلام فيهما كما تقدّم في العنب، {وحدائقَ}؛ بساتين {غُلْباً}: جمع غلباء، أي: غلاظ الأشجار مع نعومتها، وصفَ به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها، {وفاكهةً} أي: ما تتفكهون به من فواكه الصيف والخريف، {وأبًّا} أي: مرعَى لدوابكم، من: أبَّه: إذا أمَّه أي قصده، لأنه يُؤم وينتجع، اي: يُقصد، أو: من أب لكذا: إذا تهيأ له؛ لأنه مُتهيأ للرعي، أو: فاكهة يابسة تُؤب للشتاء.
وعن الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه سُئل عن الأب، فقال: أيُّ سماء تُظلني، وأيّ أرض تُقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية، فقال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبُّ؟ ثم رفع عصاً كانت بيده، فقال: هذا لعَمْرُ الله التكلُّف، وما عليك يا ابن أمر عمر، ألاَّ تدري ما الأبُّ؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم وما لا فلتَدعُوه. اهـ. وهذه اللفظة من لغات البادية، فلذلك خفيت على الحواضر.
{متاعاً لكم ولأنعامكم} أي: جعل ذلك تمتيعاً لكم ولمواشيكم فإنّ بعض هذه المذكورات طعام لهم، وبعضها علف لدوابهم، و{متاعاً}: مفعول لأجله، أو: مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد، أي: متّعكم بذلك متاعاً، والالتفات لتكميل الامتنان، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قُتل الإنسان؛ لُعن الغافل عن ذكر الله لقوله عليه السلام: «الدنيا مَلعونَةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلاَّ ذِكْرُ الله وما وَالاهُ، وعالماً ومُتَعلِّماً»، فلم يخرج من اللعنة إلاّ الذاكر والعالِم والمتعلم إذا أخلصا، ثم عجب تعالى من شِدة كفره لنِعمه، حيث لم يُشاهد المُنعِّم في النِعم، فيقبض منه، ويدفع إليه، ثم ذكر أول نشأته ومنتهاه، وما تقوم به بِنْيتِه فيما بينهما؛ ليحضه على الشكر. قال القشيري: {من أيّ شيء خلقه..} إلخ، يعني: ما كان له ليكفر، لأنّا خلقناه من نطفة الوجود المطلق وهيأناه لمظهرية ذاتنا وصفاتنا، وأسمائنا. اهـ.
ثم قال: {ثم السبيل يَسَّره} أي: سهلنا عليه سبيل الظهور لِمَظاهر الأسماء الجلالية والجمالية، ثم أماته عن أنانيته، فأقبره في قبر الفناء عن رؤية الفناء، ثم إذا شاء أنشره بالبقاء بعد الفناء. كلاَّ لِيرتدع عن كفرانه لنِعمنا، وليستغرق أحواله في شهود ذاتنا، ليكون شاكراً لأنعُمنا، لمَّا يقضِ ما اَمَرَه، وهو الوصول إلى حضرة العيان. فكل مَن وصل إلى حضرة الشهود بالفناء والبقاء فقد قضى ما أَمَرَه به مولاه، وكل مَن لم يصل إليها فهو مُقَصِّر، ولو أعطي عبادة الثقلين. قال القشيري: ويُقال: لم يقضِ الله له أمره به، ولو قضى له ما أمره به لَمَا عصاه. اهـ. وقال الورتجبي: لم يفِ بالعهد الأول، حين خاطبه الحق بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172] ولم يأتِ بمراد الله منه، وهو العبودية الخالصة. اهـ. قلت: يعني مع انضمام شهود عظمة الربوبية الصافية.
وقوله تعالى: {فلينظر الإنسانُ إلى طعامه} أي: الحسي والمعنوي، وهو قوت القلوب والأرواح، أنَّا صببنا الماء صبًّا، أي: صببنا ماء العلوم والواردات على القلوب الميتة فحييت. قال القشيري: صَبَبْنا ماءَ الرحمة على القلوب القاسية فَلاَنتْ للتوبة، وماء التعريف على القلوب الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوارُ التجريد. اهـ. ثم شققنا أرض البشرية بأنواع العبادات والعبودية، شقًّا، فأنبتنا فيها: في قلبها حَبَّ المحبة، وكَرْمَ الخمرة الأزلية، وقَضْب الزهد في زهرة الدنيا وشهواتها، وزيتوناً يشتعل بزيتها مصابيح العلوم، ونخلاً يجنى منها ثمار حلاوة المعاملة، وحدائق، أي: بساتين المعارف متكاثفة التجليات، وأبًّا، أي: مرعى لأرواحكم، بالفكرة والنظرة في أنوار التجليات الجلالية والجمالية، فيأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء، كما قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
الخلقُ نوار وأنا رعيت فيهم *** هم الحجب الأكبر والمدخل فيهم
متاعاً لكم، أي: لقلوبكم وأرواحكم، بتقوية العرفان في مقام الإحسان، ولأنعامكم أي: نفوسكم بتقوية اليقين في مقام الإيمان. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {فإِذا جاءت الصَّاخةُ} أي: صيحة القيامة، وهي في الأصل: الداهية العظيمة، وسُميت بذلك لأنَّ الخلائق يَصخون لها، اي: يُصيخون لها، مِن: صَخَّ لحديثه: إذا أصاخ له واستمع، وُصفت بها النفخة الثانية لأنَّ الناس يصخون لها، وقيل: هي الصيحة التي تصخ الآذان، أي: تصمها، لشدة وقعها. وجواب إذا: محذوف أي: كان من أمر الله ما لا يدخل تحت نطاق العبارة، يدل عليه قوله: {يومَ يفرُّ المرءُ من أخيه}، فالظرف متعلق بذلك الجواب، وقيل: منصوب بأعني، وقيل: بدل من إذا أي: يهرب من أخيه لاشتغاله بنفسه، فلا يلتفت إليه ولا يسأل عنه، {و} يفرُّ أيضاً من {أُمهِ وأبيهِ} مع شدة محبتهم فيه في الدنيا، {وصاحبتهِ} أي: زوجته {وبنيهِ}، بدأ بالأخ ثم بالأبوين؛ لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين؛ لأنهم أحبُّ، فالآية من باب الترقي. وقيل: أول مَن يفرُّ من أخيه: هابيل، ومن أبويه: إبراهيم، ومن صاحبته: نوح ولوط، ومن ابنه: نوح. {لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنيه} أي: لكل واحد من المذكورين شغل شاغل، وخطب هائل، يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره.
ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء، بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء، فقال: {وجوه يومئذٍ مُسْفِرةٌ} أي: مضيئة متهللة، من: أسفر الصبح: إذا أضاء، قيل: ذلك مِن قيام الليل، وقيل: مِن إشراق أنوار الإيمان في قلوبهم، {ضاحكةٌ مستبشرةٌ} بما تُشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة. {ووجوه يومئذٍ عليها غبرةٌ} أي: غبار وكدور، {تَرهقها} أي: تعلوها وتغشاها {قَتَرَةٌ} أي: سواد وظُلمة {أولئك هم الكفرةُ}، الإشارة إلى أصحاب تلك الوجوه. وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتهم في السوء، أي: أولئك الموصوفون بسواد الوجوه وغبرتها هم الكفرة {الفجرةُ} أي: الجامعون بين الكفر والفجور، ولذلك جمع الله لهم بين السواد والغبرة. نسأل الله السلامة والعافية.
الإشارة: فإذا جاءت الصاخة، أي: النفحة الإلهية التي تجذب القلوب إلى الحضرة القدسية فتأنّست القلوب بالله، وفرتْ مما سواه فترى الرجل حين تهب عليه هذه النفحة، بواسطة أو بغير واسطة، يفر من الخلق، الأقارب والأجانب، أُنساً بالله وشُغلاً بذكره، لا يزال هكذا حتى يصل إلى مولاه، ويتمكن من شهوده أيَّ تمكُّن، فحينئذ يخالط الناسَ بجسمه ويفارقهم بقلبه، كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها:
إِنَّي جَعلتُكَ في الفُؤَادِ مُحَدّثي *** وأَبَحْتُ جسمي مَنْ أراد جُلوسي
فَالْجِسْمُ مني لِلْجَلِيس مُؤَانِس *** وحبيبُ قَلْبي في الفُؤادِ أنِيسي
قال القشيري: قالوا: الاستقامة أن تشهد الوقت قيامة، فَما مِن وَلِيًّ وعارفٍ إلاّ وهو اليومَ يَفرُّ بقلبه من الجميع؛ لأنّ لكل شأناً يُغنيه، فالعارفُ مع الخَلْق لا بقلبه، ثم ذكر شعر رابعةُ.
وقال الورتجبي: أكّد الله أمر نصيحته لعباده ألاّ يعتمدوا إلى مَن سواه في الدنيا والآخرة، وأنَّ ما سواه لا ينقذه مِن قبض الله حتى يفرّ مما دون الله إلى الله. اهـ. وقال في قوله تعالى: {لكل امرىء منهم يومئذ شأن يُغنيه}: لكل واحدٍ منهم شأن يشغله، وللعارف شأن مع الله في مشاهدته، يُغنيه عما سوى الله. اهـ.
قوله تعالى: {وجوه يومئذ مُسْفِرة ضاحكة مستبشِرة} كل مَن أَسفر عن ليل وجوده ضياءُ نهار معرفته، فوجهه يوم القيامة مُسْفِر بنور الحبيب ضاحك لشهوده، مستبشر بدوام إقباله ورضوانه. وقال أبو طاهر: كشف عنها سُتور الغفلة، فضحكت بالدنو من الحق، واستبشرت بمشاهدته. وقال ابن عطاء: أسفر تلك الوجوه نظرُها إلى مولاها، وأضحكها رضاه عنها. اهـ. قال القشيري: ضاحكة مستبشرة بأسبابٍ مختلفة، فمنهم مَن استبشر بوصوله إلى حبيبه، ومنهم بوصوله إلى الحور، ومنهم، ومنهم، وبعضهم لأنه نظر إلى ربِّه فرأه، ووجوه عليها غبرة الفراقُ، يرهقها ذُلُّ الحجاب والبعاد. اهـ.
قال الورتجبي: {وجوه يومئذ مُسْفِرة}، وجوه العارفين مُسْفرة بطلوع إسفار صبح تجلِّي جمال الحق فيها، ضاحِكة مِن الفرح بوصولها إلى مشاهدة حبيبها، مستبشرة بخطابه ووجدان رضاه، والعلم ببقائها مع بقاء الله. ثم وصف وجوه الأعداء والمدّعين فقال: {ووجوه يومئذٍ عليه غبرةُ} الفراقِ يوم التلاق، وعليها قَتر ذل الحجاب، وظلمة العذاب نعوذ بالله من العتاب قال السري: ظاهر عليها حزن البعاد؛ لأنها صارت محجوبة، عن الباب مطرودة، وقال سَهْلٌ: غلب عليها إعراض الله عنها، ومقته إياها، فهي تزداد في كل يوم ظلمة وقترة. اهـ.
اللهم أسفر وجوهنا بنور ذاتك، وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً.